November
-1-1
0000-00-00
أسأل أمي إن كان موسم الأمطار قد بدأ، تجيبني بأنه لم يبدأ بعد، وتدعو الله أن يتأخر حتى ما بعد رمضان؛ إذ سيكون من المهلك أن يصوم أهل القرية في ظل أعمال موسم الزراعة وحر الصيف. أكرر دعوة أمي آملة أن يستجيب الله ويؤجل موسم الأمطار حتى ينتهي رمضان والعيد. وبعد كل مكالمة أسترجع ذكرياتي عن هذه المواسم وكيف كنت أدعو أن تتأجل، غير أني في الوقت نفسه كنت أسكر بصباحات ما بعد المطر حين تصير رائحة الأرض عبقة دبقة. تهدر السيول نازلة من الجبال عبر المدرجات باتجاه الوادي مخلفة وراءها عيون المياه الصغيرة على امتداد الوادي والتي تحافظ على جريانها لأسابيع بعد كل سيل جبار. خوار الأبقار وثغاء الماشية له وقع مختلف في موسم الأمطار. تضطلع النسوة في مواسم المطر بعمل مجهد. ضمن قلة قليلة من النساء كنت أتذمر من عبء العمل، أما غالبيتهن من حولي فيقدرن مسؤولياتهن؛ فهن يدركن أن هذا كما هو موسم العمل هو أيضا موسم الحياة، ولولاه لهلك الناس ولهلكت الحيوانات من الجفاف.
لا تنظر النساء بشكل عام لهذا النوع من العمل الشاق على أنه “عمل شاق”، بل هو العمل الطبيعي والمصير الحتمي لإنسان يرتبط بالأرض. ولا يمكنك أبداَ أن تقارن بين عملك في شركة أو مصلحة حكومية، تتذمر وتتنصل من مسؤولياتك وعليك رقابة، مع عمل النساء في الريف. فالنساء في عملهن هذا مخلصات متفانيات لا ينتظرن جزاء ولا شكورا. تعمل المرأة في الريف كل وقتها وكل مواسمها، دون أن تعد نفسها “عاملة”. يرتبط المفهوم الشائع للعمل بتقاضي الأجر المالي مقابل الجهد. كون النساء بشكل عام لا يتقاضين أجراً مقابل الأعمال المنزلية وفي حالة الريف لا يتقاضين أجراً مقابل الأعمال الزراعية كون الرجال يعملون في مهن أخرى، فهن يسقطن من التصنيف الاجتماعي للقوى العاملة باعتبار أن هذه الأعمال قد أصبحت لصيقة بالنساء كأدوار نمطية غير مدفوعة الأجر يتم التعاطي معها وكأنها أدوار خاصة بهن لنوعهن كنساء. العائد الذي تحصل عليه النساء بعد بيع المحصول هو عائد عيني يتمثل في جزء من المحصول لإطعام الأسرة واحتياجات أخرى يتم شراؤها.وبالتالي لا تحصل المرأة المزارعة على سيولة مالية يمكن اعتبارها أجرا كذلك الذي يحصل عليه الرجل ويحتفظ به بعد بيعه المحصول، والذي يمكنه التصرف بما بقي منه بشكل مستقل بعد شراء احتياجات الأسرة على عكس النساء اللاتي قمن بمعظم العمل إن لم يكن كله.
في الرابعة أو الرابعة والنصف فجرا تشعل النساء المواقد إيذانا بيوم كفاح جديد. أتذكر كيف أن هناك بيوتا كانت تضاء مواقدها في الثالثة فجرا. تبدأ النساء يومهن بسباق محموم مع الشمس، يكافحن لإنهاء أعمالهن في الأرض قبل أن تتوسط الشمس السماء وتحرقهن. و”الحظية” منهن هي من تأتي الساعة التاسعة وقد أكملت عملها اليومي في الأرض وعادت الى المنزل لترعى مسؤولياتها الأخرى التي لا نهاية لها.
كان أول صوت أسمعه عند الفجر هو صوت أمي تغسل “الكتلي” إبريق الشاي؛ إذ أن هذا أول ما سيوضع على النيران. ثم صوت عود الثقاب يستعد للاندساس في كومة الحطب المرتبة تحت الكتلي. يتسلل الدخان الأولي المميز لإحراق الحطب، فأصحو معذبة راغبة في ساعة أخرى من النوم. وحين أصحو تعدد أمي أسماء النسوة اللاتي صحون قبلنا. تكون أمي قد قامت بمسح شامل للبيوت أعلى وفي وجوار وتحت قريتنا. هذا المسح والتعداد من أجل أن تثبت لي أمي أننا متأخرات وأنه لا داعي لأن أشعر بالإنجاز كوني أفقت باكرا، فهناك قائمة بالمهام الصباحية التي مهما كنا سريعتين فلن ننجزها قبل السطوع الجبار للشمس. فعلى عكس أغلبية البيوت، كنا اثنتين فحسب، لم يكن هناك غيرنا من الإناث في البيت.
في تلك البيوت التي تستطيع امتلاك الأبقار يجب أن يكون الاستيقاظ أبكر. يجب حلب البقرة، وإعداد “الحقين” ومشتقاته. ويجب أن تنظف إسطبلات المواشي من أبقار وأغنام وخراف ودجاج. يجب أن يخبز خبز الصباح، وأن يعد الشاي والقهوة. يجب أن تنظف “الصرحة”، المساحة الكائنة أمام عتبة كل بيت والتي تعد عنوان البيت ومقياس ما إذا كانت النسوة نظيفات أو مهملات. في تلك الصباحات الصيفية التي غالبا ما تنام الأسر في لياليها على السطوح، تكون هناك أيضا مهمة إنزال كل مستلزمات النوم من على السطوح إلى الداخل “كي لا تأكلها الشمس”، المصطلح المتداول للتعبير عن أن الشمس سوف تتلف البطانيات والفرش المتنقلة. هذا إن كانت العائلة تمتلك هذه الرفاهية، فكثير من العائلات تنام على الحصير ولا تملك “فرشا إسفنجية”.
هناك نوعان من الفلاحة: إما أن تفلح العائلات الأرض يدويا، أو أن الأرض تفلح بواسطة الأبقار أو الحمير. في الفلاحة اليدوية تقلب النساء التربة بأيديهن وترمي الحبوب في الآن نفسه. أما حين تستخدم المواشي، فغالبا يقود الرجل الأبقار أو الحمير لتقليب التربة، بينما تتبعه المرأة التي ترمي الحبوب (الذري) من صرة معلقة في خصرها أو تحملها في يدها اليسرى. وهذه هي الصورة المتداولة دوما عن المزارعين في القرى. غير أن ذلك ليس هو الحال دائما؛ فالأسر التي لا تملك أبقارا وليس لديها المال لدفع أجر عامل ذكر توكل المهمة إلى النسا اللاتي يقمن بالعمل كله بأيديهن. تنظف النساء الأرض من الأحجار وبقايا أيام الجفاف. يقلبن التربة كي تستعد للزرع، ثم يرمين الحبوب. وحين يكبر الزرع تنظف النساء التربة من كل الحشائش الضارة ويقلبنها من جوانب الزرع الهش كي ينمو ويكبر في أمان من هبات الرياح أو غمرات الأمطار.
في أي يوم عادي من أي أيام الزراعة، المرأة حرفيا “عاملة”، عاملة في كل الأوقات وكل المهام: فجرا في البيت، النصف الأول من اليوم في الفلاحة، وعند الظهر في المنزل لإعداد الغداء ومن أجل الاهتمام بالأطفال والماشية. فترة ما بعد الظهيرة تخصص لا طعام الماشية وجلب الماء من أحواض الماء وغسل الثياب وتنظيف المنزل الذي لم ينظف في الصباح كالعادة أو للعمل في الأرض من جديد. وحين يحل المساء تكون النساء قد استهلكن تماما ويبقى أن يعددن ما لم يعد لرحلة اليوم التالي: عجينة الخبز الذي سيخبز صباحا، وإعداد الحبوب التي ستستخدم في اليوم التالي، وتفاصيل لا تعد ولا تحصى.
في موسم الحصاد تكاد تكون الأمور مشابهة لكنها أقسى قليلا وأكثر إجهادا، تتنوع المهام بصورة أكبر من تلك التي في موسم الزراعة. يسيطر جنون السباق على العائلات، وتعمل النساء جاهدات لإتمام عمل الحصاد في أسرع وقت. يبدأ الموسم بأن تعلن السنابل استعدادها للحصاد، تبدأ المرحلة الأولى بأن تجمع السنابل الجاهزة، فسنابل أخرى ما زالت خضراء وغير مستعدة للقطاف بعد. المرحلة الثانية تبدأ بأن تجمع كل السنابل بدون استثناء فالوقت قد حان. يمر الحصادون خلال الزرع، ملتقطين السنابل وفاصلينها عن الزرع، ثم جامعينها إما في سلال سعف النخيل، أو في “شوالات” أكياس الطحين المستخدمة. تحملها النساء بعد ذلك عائدات إلى المنازل، ثم ناشرات المحصول على السطوح كي يجف أكثر. في المنزل وعلى السطوح، تفصل أنواع السنابل كل على حدة. هناك أيضا البقوليات التي تزرع في نفس الموسم، وأحيانا تتواجد الملوخية “الويكة”، إن كانت الأرض ما زالت رطبة، تفصل كل الأنواع على حدة، ويُعتنى بشكل خاص بالسنابل الفاخرة والجيدة، فهي التي ستستخدم حبوبها للزراعة في الموسم القادم في عملية مركزة ومدروسة لانتخاب الأفضل.
تستمر عملية جمع السنابل وإعادتها للمنزل وفصلها وتجفيفها، وهذه العملية تأخذ وقتاً يحدده حجم الأرض التي تمتلكها العائلة، تأتي المرحلة الثالثة في عملية حصاد الزرع نفسه، وهذا الجزء أقسى قليلا من سابقه، فبينما يُجمع المحصول وقوفا، يحصد الزرع انحناء. تعبر الأيادي حاملات “الشريم” أو منجل الحصاد على نهايات الزرع وتجتزه. يرتب العلف بعناية في حزم صغيرة، ثم يحزم في ربط توضع على جدران المدرجات في أكثر الأماكن عرضة الشمس حتى يجف. أي أن هناك أيادي تجتز وأيادي تجمع وتحزم، وأيادي تنقل العلف إلى مواضع الشمس في انتظار أن تجف ليبدأ نقل العلف في حزم أكبر نحو المنزل أو ما جاوره.
في البيت العمل محتدم، تدور النساء مثل النحل: فصل السنابل وتجفيفها بأن تقلب تحت الشمس حتى تتعرض كل جهاتها للشمس الحارقة. ويا للمصيبة إن أرعدت السماء أو أمطرت! تضطر الأسر أن تنقل كل محصولها من على السطوح في أسرع وقت، قبل أن يداهمه المطر، وبينما يكون من الممكن إنقاذ المحصول يكون من الصعب إنقاذ حزم ال”قصب” الجاف، الذي يسود ويتكسر ويتلف. لكن إذا ما أجلت السماء موعدها، فإن عملية استخراج الحبوب من السنابل تبدأ حالما تكون جافة وتتساقط حبوبها بنفسها. تجمع كتل السنابل وتضرب بالعصا، إما عارية في مواجهة العصا أو أن تحشر في “شوالة” كيس الطحين مرة أخرى. وتظل تضرب إلى أن تسقط كل الحبوب من على السنابل. ثم يأتي الجزء الذي يليه، وهو أن تنظف الحبوب من بقايا السنابل، تقف النساء في مواجهة الريح، تحمل سلة من السعف مليئة بالحبوب مع بقايا السنابل وسلة أخرى تنتظر في الأرض، بروية تسقط الحبوب من الأعلى، تنهمر الحبوب مع بقايا السنابل في مواجهة الريح التي تقذف بالبقايا الهشة للسنابل بعيدا بينما الحبوب الأثقل وزنا تنزل سالمة للسلة المنتظرة في الأرض. تكرر هذه العملية حتى تنظف الحبوب تماما من بقايا السنابل. الجزء المريع في هذه المرحلة هو أن بقايا السنابل المتطايرة تتسبب في حكة جنونية؛ لذا تهرول النساء للاستحمام بعد كل عملية تنقية للحبوب. لم ينته موسم الحصاد هنا، فبعد تنظيف الحبوب تنشر تحت الشمس مرة أخرى، في محاولة أخيرة لتجفيفها بشكل كامل استعدادا للتخزين أو الاستخدام. في قرانا مثلا هناك نوعان من الحبوب: الدخن (الذي سيصنع منه اللحوح) والغربة الذي يتم خلطه بشكل شبه يومي بالدقيق الأبيض لصنع الخبز، وبشكل عام فالمحصول لا يحقق الاكتفاء الذاتي للعائلات، لكنه يسهم بجزء ما، ويسهم أكثر في شبه اكتفاء ذاتي لعلف الماشية، الذي يجهز بالتزامن مع تنقية الحبوب وتخزينها. بعد كل ذلك تشرع النساء في نقل حزم القصب الجافة على رؤوسهن من المدرجات المبعثرة إلى المنازل، ليجمعنها في أهرامات صغيرة، بغية الحفاظ عليها حتى موسم الجفاف، وتستخدم بعدها كعلف للماشية.
وبالحديث عن الماشية وعن العمل غير مدفوع الأجر، تجدر الإشارة إلى أن النساء يكدحن في الأرض وبشكل يومي في رعاية الماشية والاهتمام بها. وقد لاحظت أن أكثر النساء رغم كونهن مالكات شرعيات للماشية بحكم المجهود والعناية، لا يمنحن لا السلطة ولا أحقية اتخاذ القرار في بيع الماشية، نساء كثيرات ينتظرن الذكور ليعودوا من المدن، وليذهبوا بصغار الأبقار والأغنام للسوق، وبينما يكافئ الرجل نفسه ب “تخزينة” قات احتفالية على جهد هو لم يبذله، لا تنال النساء من هذه المكافأة شيئا. وقد يقول قائل إن العائد في النهاية يعود للمنزل، غير أننا نبادر ونقول بأن المسألة تكمن في التقدير وفي الاعتراف بالأحقية!
بين الموسمين تكون النساء مشغولات بشكل يومي بجلب الحشائش، الماء، الأحطاب، رعي الماشية، عمل البيت، جلب المؤونة من الدكاكين البعيدة، كل شيء يحمل على الرؤوس: كل ما سبق، أسطوانات الغاز، والإسمنت، والتراب، والطحين. اعتادت النساء في قريتي مثلا أن يجلبن كل هذا من مناطق بعيدة. الوضع في قريتنا صار الآن أحسن من ذي قبل مع بناء دكان في الوادي، غير أن نساء كثيرات في قرى أخرى مازلن يقطعن مسافات طويلة حاملات كل حاجيات أسرهن على رؤوسهن.
وكل تلك النساء إما أمهات لكثير من الأطفال، أو طفلات ومراهقات، يفترض أن يكن في المدارس، أو يستمتعن بوقتهن في العصريات أمام التلفاز. وبينما اعتدت في كل عيد عمال تقريبا أن أكتب جملة قصيرة على الفيسبوك أهنئ فيها على الدوام نساء قريتي وكل قرى الدنيا اللواتي يعمل بدون بأجر، ويعملن حين يستريح الآخرون، ويحملن مسؤولية الحياة التي تخلى عنها الآخرون- أعرف تماما أن كل تلك النساء لم يسمعن بعيد العمال ولن يسمعن ربما به في قادم الأيام. إنهن حتى في ذلك اليوم محرومات من الإجازة ولو ليوم واحد. إنهن لسن مثلنا نحن المعترف بنا كـ“عاملات وعاملون”. بالطبع لن يقرأن تهنئتي المنافقة على الفيسبوك، لذا: في كل يوم تشرق فيه الشمس عليكن في الحقول، عيد عاملات مجيد!
أخيرا، تخبرني أمي أنها تستعد لتنظيف حوض المياه من وحل سنين من الأمطار، استعدادا لاستقبال موسم الأمطار ليمتلئ بمياه جديدة. وعملية تنظيف الأحواض من أصعب المهام. سألتها من من الذكور متواجد في القرية حتى يقوم بالمهمة، ردت باستهجان: بالطبع ليس الذكور من سيقوم بهذه المهمة، بل الإناث، وأردفت مؤكدة: أن الرجال سيأخذون وقتا أطول بكثير. لكنها وبقية النساء والفتيات سيقمن بالمهمة بشكل أسرع وأكثر دقة! واستدركت: أنتِ تعرفين.. بالطبع أعرف، وممتنة جدا كوني سليلة تلك النسوة.
.ريم مجاهد، كاتبة يمنية تعيش في التشيك. لها عدة مقالات منشورة في عدة مطبوعات يمنية وعربية