د. عبدالكريم غانم
ملخّص تنفيذي:
تواجه النساء والفتيات، بعد 6 سنوات من اندلاع النزاع، عنفا متزايدا قائما على النوع الاجتماعي، بشكلٍ يفوق ما هو معتاد من مستويات العنف، فقد دفعت الحرب النساء والفتيات للانخراط في الأعمال المحفوفة بالمخاطر، للمساعدة في توفير دخل لأسرهن، لكن الحرب التي عانى منها اليمنيون كثيرًا، فاقمت ظاهرة العنف ضد النساء، جراء تزايد مسؤولياتهن وتطور أدوارهن، فالمجتمع اليمني الذي تسود فيه المعايير الصارمة المتعلقة بالنساء، أتاح لأطراف النزاع استغلال هذه المعايير، لقمع أيّة بوادر معارضة، من خلال تقييد حركة النساء والفتيات، وتقييد تنقلاتهن، واعتقال الناشطات، فاستجاب الرجال لذلك، انطلاقًا من شعورهم بالضعف والتهديد، جراء تعرُّض الأدوار التقليدية داخل الأسرة للتغيير.
وكرد فعل على تطور أدوار النساء، أبدى الرجال حالة من المقاومة العنيفة في مواجهة هذا التطور، وهو ما يفسر تزايد حالات العنف المنزلي، والزواج المبكر، وختان الإناث، و”جرائم الشرف”، وتراجع فرص النساء والفتيات في الغذاء والتعليم، وتزايد حالات الزواج القسري، حيث يتم دفع فتيات لا تتجاوز أعمارهن 13 سنة نحو الزواج، لتخفيف الضغوط الاقتصادية على أسرهن، وفي معظم الحالات تترك الفتيات المدرسة ويبقين في البيت، بسبب التوقعات الاجتماعية لأدوار الجنسين.
لقد شكَّل النزاع مرحلة تحَولٍ جديدة للمجتمع اليمني، ترتب عليها انتشار نقاط التفتيش في مختلف أنحاء البلاد، وتقييد حرية الحركة، الأمر الذي أسهم في تدمير التحسن الهش في أوضاع المرأة، وتراجع وسائل حماية النساء والفتيات من العنف. وعلى الرغم من الصورة القاتمة لمستوى العنف ضد النساء والفتيات في اليمن خلال فترة النزاع، إلا أن هناك ما يمكن البناء عليه، فالتقدم في حقوق المرأة في التاريخ اليمني الحديث، قد فاق بكثير حقوق المرأة في أجزاء أخرى من الخليج، على الرغم من الثروة الخليجية الأكبر بكثير[1]، والاتجاهات النسائية المناهضة للعنف ضد المرأة، لا تقتصر على جهود المنظمات الإنسانية، بل تشمل الاتجاهات الاجتماعية الحداثية في اليمن، والاستحقاقات السياسية والدستورية والقانونية التي تضمنتها مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور.. ويمكن استغلالها مجتمعة في الحد من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
مقدّمة
يشكل الرجال والشبان معظم الضحايا المباشرين للنزاع المسلح والآثار المرتبطة به، فتتحمل النساء أعباء الإنفاق على الأسرة ومسؤولية إدارتها، في ظل ظروف شديدة الصعوبة، تجعلهن أكثر عرضة لأشكال مختلفة من العنف. وعلى الرغم من أن النزاع في اليمن أثر بشكلٍ كبير على كل المدنيين، فإن تأثر النساء والفتيات كان أكبر، جراء استمرار الصورة النمطية السلبية بشأن أدوار النوع الاجتماعي والمواقف الذكورية، والنظام القانوني التمييزي، وانعدام المساواة الاقتصادية، وما ترتب عليه من تفاقم الوضع الهش للمرأة في ما يخص تعرضها للعنف.
تبدأ هذه الدراسة بتحليل الخلفية التاريخية للعنف القائم على النوع الاجتماعي، والوقوف على جذوره الثقافية، وما يرتبط بها من تشريعات وإجراءات رسمية، مرورًا باستعراض واقع العنف ضد المرأة قبل اندلاع النزاع، وتحليل مدى تأثير النزاع المسلح في تفاقم هذه المشكلة، ففي ظل ازدياد معاناة اليمنيين وتعميق حدة الأزمة الاقتصادية، وتضرر البنية التحتية، وانهيار الخدمات، تعيَّن على النساء، بالإضافة إلى تحمل ذلك، أن يواجهن محدودية الحركة، بسبب المعايير الثقافية السائدة بين الجنسين، لأنهن مسؤولات عن توفير الطعام وتقديم العناية في منازلهن والوصول إلى الرعاية الصحية، لذا كان لِزَامًا عليهن أن يتعاملن مع هذه التحديات، وفي مقابل هذا التطور -الذي اقتضته ظروف الحرب- في أدوار النساء والفتيات، عمدت أطراف النزاع إلى فرض القيود لكبح تحركاتهن، فأدت هذه التصرفات إلى تفاقم ظاهرة عدم المساواة الكامنة في المجتمعات المحلية، وأطاحت بالمكاسب الطفيفة التي تحققت في أوضاع النساء والفتيات قبل النزاع، وتسببت في تعثّر التطورات اللاحقة، وعكسها في بعض الحالات، حيث ترتب عليها ظهور نقاط ضعف جديدة أسهمت في تفاقم العنف ضد النساء والفتيات بسبب النزوح والفقر والعنف العشوائي، وانهيار الدعم المحدود أصلًا، الذي يوفره نظام العدالة الجنائية لمواجهة العنف، بل باتت بعض الجهات الفاعلة المكلفة بإنفاذ القانون والقوات المسلحة والجماعات المسلحة تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن المرأة.
علمًا أن أطراف النزاع قد عرقلت وأعاقت شبكات الحماية في مناطق رئيسية، فمنذ عام 2016، فرضت سلطات الأمر الواقع، بشكل متزايد، القواعد والقوانين الأبوية، مع تفسير صارم، من خلال استخدام مؤسسات الدولة، ومن خلال الخطاب العام، كوسيلة للسيطرة على النساء والفتيات، والحدّ من مشاركتهن السياسية. وتخلصُ هذه الدراسة إلى تقديم مبادئ لمقاومة العنف القائم على النوع الاجتماعي، للإسهام في الحد من تفاقمه أثناء النزاع، وتقديم توصيات مرتبطة بالتدابير المناسبة لحماية النساء والفتيات، واحترام وتفعيل حقوقهن في أعقاب انتهاء النزاع المسلح.
صور العنف القائم على النوع الاجتماعي وتنوعه في السياق اليمني:
الجذور المعاصرة والتجليات الحديثة للعنف ضد النساء والفتيات
تاريخيًا، كانت المرأة في اليمن أقل قوة في المجتمع من الرجل[2]، وكان العنف ضد النساء والفتيات -قبل اندلاع النزاع في اليمن- مشكلة متكررة، لاسيما في إطار الأسرة، وكما هو سائد في الكثير المجتمعات، من المعيب من الناحية الاجتماعية القيام بالتبليغ عن الإساءة من قبل فرد قريب مثل الأب أو الزوج، كما أن من العيب للغاية في الثقافة اليمنية ضرب المرأة أو إهانتها، رغم ذلك، فإن من حق الأب أو الأخ القيام بذلك من أجل تأديب الفتاة والمحافظة على شرف الأسرة، بحيث لا ينظر إلى مسألة التأديب على أنها أمر معيب، وتعتبر في العادة شأنًا داخليًا خاصًا بالأسرة[3]، كما أن الثقافة الأبوية المترسخة، غالبًا ما تمنح الأزواج -لا الزوجات- حق اتخاذ القرار داخل الأسرة، ما يؤدي إلى زيادة احتمالات وقوع العنف ضد النساء.
ولا تنفصل أحكام قانون الأحوال الشخصية كثيرًا عن هذه الثقافة التقليدية، إذ تخلق الظروف التي يمكن أن تُسهِّل الاغتصاب الزوجي والعنف الأسري، فتلزم المرأة أن تكون مطيعة لزوجها، ولا تسمح لها بمغادرة منزل الزوجية دون إذن زوجها إلا في ظروف ضيقة للغاية، كما تلزمها بالسماح للزوج بممارسة الجنس متى طلب منها ذلك[4]، فالاغتصاب الزوجي غير مُجرَّم.
وبالمثل، تزيد أحكام قانون العقوبات هذه من تعرض المرأة للعنف، إذ تكتفي بأحكام مخففة للرجال المدانين بما يسمى “جرائم الشرف”[5]، بالإضافة إلى ذلك، في حالة قيام أحد أفراد الأسرة بقتل قريبة أنثى باسم “الشرف”، يمكن لأسرته العفو عنه، ولا يوجد في اليمن قانون مصمم خصيصًا لحماية المرأة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، باستثناء الحماية العامة المنصوص عليها في قانون العقوبات، والتي تجرم إلحاق الأذى الجسدي.
ليس لدى اليمن حتى الآن حد أدنى لسن الزواج، على الرغم من المحاولات التي بُذلت في مجلس النواب لرفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى 18 عامًا. وتم مناقشة ذلك في مؤتمر الحوار الوطني، أعقاب أحداث الربيع العربي وعملية الانتقال السياسي، حيث تم الانتهاء من صياغة مسودة دستور جديد، عام 2015، لكن لم يتم التصديق عليها بعد، لأسباب عديدة، تكفل المسودة المساواة أمام القانون (المادة 74)، وعدم التمييز على أساس الجنس أو العقيدة (المادة 75)، وحظر الاستغلال الجسدي والجنسي (المادة 77)، وحظر الاتجار بالبشر (المادة ٧٨)، كما حددت المسودة السن القانونية للزواج لكل من الرجال والنساء، وهي ١٨ سنة (المادة ١٢٤)[6]، إلا أن هذه النصوص التشريعية لم تدخل حيز التنفيذ.
فالزواج المبكر للأولاد والبنات يظل أمرًا شائعًا، ولاسيما في المناطق الريفية. وعادةً ما تتزوج البنات في سن أصغر من الأولاد. لذلك، فإن العديد منهن يخرجن من المدارس، ويتعرضن للحمل والإنجاب في سن مبكرة، مما يعرض صحتهن وصحة أطفالهن للخطر. ولأنهن يُحرمن من إكمال تعليمهن، فإنهن يعتمدن، ماليًا واجتماعيًا، على أزواجهن، اعتمادًا كاملًا، فالفتيات غالبًا ما يُرغمن من قبل عائلاتهن على الزواج من رجال أكبر سنًا منهن بكثير. وكثيرًا ما تكون الزيجات القسرية، وبخاصة بالنسبة للبنات في سن الدراسة، مرتبطة بالعنف المنزلي[7]، فالفتيات اللاتي يتزوجن قبل بلوغهن 18 عامًا من العمر، يكنّ أكثر عرضة للعنف من أقرانهن اللاتي يتزوجن في عمر أكبر.
ووفقًا لما كانت عليه أوضاع الفتيات والنساء قبل النزاع، قدم الاستعراض الدوري الشامل حول اليمن عام 2014، عدة توصيات لتحسين حقوق المرأة والفرص المتاحة لها، فقبل اندلاع الحرب، كانت النساء والفتيات يعشن في مجتمع فقير وغير متكافئ، إذ يحتل اليمن ثاني أسوأ مرتبة في العالم بين جميع البلدان في مؤشر عدم المساواة بين الجنسين في التدابير المركبة للحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
كان يتم التعامل مع معظم حالات العنف ضد النساء والفتيات داخل نطاق الأسرة وحسب العُرف، فلايزال اليمن مجتمعًا قبليًا إلى حد كبير، مع وجود سلطة أبوية قوية[8].
ويقدم اتحاد نساء اليمن خدمات المعلومات القانونية للناجيات من العنف، والإحالة إلى الخدمات القانونية وغيرها، وفي الوحدة الخاصة بحماية الأسرة في وزارة الداخلية، يقوم فريق من الضابطات بتلقي شكاوى النساء ضد أزواجهن أو إخوانهن أو أسرهن بشكل عام.
وفي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كانت هناك خطة عمل خمسية (2011- 2015) تشمل تطوير 5 دور إيواء جديدة للنساء في 5 محافظات، ولكن توقف العمل بسبب النزاع الدائر[9].
وتظل الأسرة هي المصدر الأساسي المتاح للحماية وتقديم العون لأفرادها الذين يقعون ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلا أنها حماية محدودة الأثر والفاعلية، لاسيما أن الأسرة ذاتها هي مصدر أساسي للعنف القائم على النوع الاجتماعي.
تأجيج العنف ضد النساء والفتيات إبان النزاع المسلح
أدى تصاعد النزاع المسلح، في أواخر عام 2014، إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل[10]، قبل النزاع، إذ واجهت النساء والفتيات إجراءات تمييزية زادت من تعرضهن للعنف، يضاف إلى ذلك أن تصرفات الأطراف المتحاربة أدت إلى نزوح النساء والفتيات بأعداد كبيرة، فتفاقم العنف ضدهن[11] بشكلٍ أكثر حِدة. وفي هذا السياق، تشير التقارير إلى أن العنف ضد المرأة ازداد بنحو 63% منذ تصاعد النزاع في 2015[12]، “وهذا يعني المزيد من حالات الاغتصاب والعنف المنزلي والزواج القسري وزواج القاصرات”[13]، إلى جانب الإيذاء الجسدي والنفسي والصدمات… مقارنةً بما كان عليه الحال قبل الحرب[14]. وفي السياق ذاته، أفادت عدد من الدراسات التي تمثل النساء في عدد من المحافظات، أن أعلى خطر للعنف القائم على أساس النوع الاجتماعي بين النساء والفتيات في اليمن، كان بين عامي 2016 و2019، هو العنف العائلي الذي يرتكبه أفراد الأسرة، وأن هذا النوع من العنف ازداد انتشاره خلال النزاع. فما حدث هو تغيير “الأدوار التقليدية” داخل الأسرة، حيث يفقد الرجال وظائفهم ويبقون في المنزل، أثناء ذلك تتولى النساء أدوار معيلهن، مما يؤدي إلى زيادة التوترات الاجتماعية، ويُعرّض النساء للعنف المنزلي، مع كون الجناة من أفراد الأسرة المقربين، بمن في ذلك الآباء والإخوة والشريك الحميم وأفراد الأسرة الممتدة[15]، فمنذ ظهور الحرب، وثّق صندوق الأمم المتحدة للسكان ارتفاعًا مستمرًا في معدلات الناجيات اللواتي يصلن إلى خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي، على الرغم من العوائق المتعددة التي تحول دون الإبلاغ، والتحديات المتزايدة التي تواجه هذه الخدمات، إذ بلغ معدل الارتفاع 70% في بعض المحافظات[16].
تشكل النساء والأطفال ما يقرب من 76% من النازحين، ووسط كل هذه المصاعب، ظلت المرأة قوية وصامدة، فالنساء في معظم الحالات هن من يتحملن عبء إعالة أسرهن[17]، وهن أكثر عرضة للعنف القائم على النوع في الظروف غير العادية، وقد أظهرت دراسة WILPF أن النزوح يزيد من خطر العنف ضد النساء، فضلًا عن الجرائم الأخرى التي تستهدفهن بشكلٍ غير متناسب، بسبب “التمييز الاجتماعي المركب الذي يجعل المرأة تعتمد على الآخرين للحصول على المساعدة”[18].
يفيد صندوق الأمم المتحدة للسكان أنه في صنعاء وعدن وحجة -المحافظات التي تستضيف أكبر عدد من النازحين داخليًا- ما يقرب من 800.000 نازح هم من النساء والفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عامًا، وهن معرضات لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي والاغتصاب[19].
فقد أدى النزوح وانهيار آليات الحماية إلى زيادة تعرض النساء والفتيات للعنف بشكلٍ كبير، “فأكثر من 3 ملايين شخص نزحوا بسبب الصراع، أكثر من نصفهم من النساء والفتيات”[20]. وتجدر الإشارة إلى أن النزوح غير المتناسب للنساء والأطفال يُعد خطرًا رئيسيًا، سواء في بيئات مضيفة أكثر أمنًا، أو في تجمعات سكانية غير آمنة وغير رسمية. وفي اليمن، لجأ ثلث النازحين على الأقل إلى المباني العامة والمهجورة، مع وجود عوامل حماية محدودة، في ظل عدم وجود نظام رسمي للمخيمات، بالإضافة إلى ذلك، عادت العديد من النساء والفتيات النازحات البالغ عددهن مليونًا، إلى منازلهن ليجدنها أماكن غير آمنة.
تماهي العنف الرسمي والمجتمعي مع العنف المنزلي:
تقييد حركة النساء وكبح تنقلاتهن
تواجه النساء والفتيات قيودًا صارمة على حرية الحركة بسبب عدم الاستقرار الأمني، والخوف من الاختطاف والتحرش اللفظي والجنسي. ويُحظر على الفتيات التحرك دون مرافقة، كما أن القيود المفروضة على حرية المرأة في التنقل، جعلت الوصول إلى العدالة أمرًا صعبًا بالنسبة للنساء اللاتي يعشن في المناطق الريفية الفقيرة بشكلٍ خاص، لأنهن يواجهن قيودًا شديدة على حرية التنقل، ويتعين عليهن أن يكنَّ برفقة أوليائهن الذكور[21].
وفي الوقت نفسه، فرضت سلطات الأمر الواقع قوانين تلزم المرأة بالتنقّل برفقة محرم كوصي، وفضلًا عن فصل الرجال عن النساء، قامت بإغلاق المؤسسات التي لم تطبق هذه الأوامر “فالمرأة، إن لم تكن برفقة أحد أقاربها الذكور، تصبح عرضة للعنف عند نقاط التفتيش، فقد تتعرض للمضايقات، والاحتجاز التعسفي والتعذيب، وأشكال أخرى من سوء المعاملة من قبل قوات الأمن”[22]، بما يترتب عليه من تراجع مساحات الحوار الإيجابي والتفاهم بين الرجال والنساء.
في العامين الأخيرين، اتهمت أطراف النزاع النساء بالدعارة والاختلاط والفجور باستخدام مصطلحات مهينة كجزء من تهديداتهم العامة ومضايقتهم ضد المعارضين، حيث استخدمت سلطات الأمر الواقع في صنعاء مثل هذه التهديدات والمضايقات عند قمع المظاهرات العامة التي تضمّ نساء، ووُجِّهت مثل هذه الاتهامات كوسيلة لـ”إضفاء الشرعية” على الاحتجاز التعسفي للنساء والفتيات.
ومن المعلوم في اليمن، أن مثل هذه الاتهامات والاعتقالات التي تتم من خلال الأجهزة الرسمية، لها عواقب وخيمة على النساء والفتيات، إذ من شأنها أن تعمّق وصمة العار المفروضة أصلًا على النساء العاملات خارج المنزل. كما تؤدي إلى جعل الإساءة المزرية التي تتمثل في تعامل سلطات الأمر الواقع مع المرأة أمرًا طبيعيًا، بما في ذلك نشر تصوّر عن النساء والفتيات على أنهن عاهرات محتملات، وتعزيز الفكرة الأبوية المتمثلة في أن سلوكهن وحياتهن الجنسية تتطلب سيطرة الأوصياء الذكور[23].
ومن التكتيكات التي تستخدمها سلطات الأمر الواقع ضد النساء عند نقاط التفتيش “حلق شعر الرأس، ولاسيما رؤوس العرائس الجدد اللاتي يسافرن بين المحافظات بمفردهن، بهدف الاجتماع مع أزواجهن. في هذا المجتمع، يُتوقع من المرأة جذب زوجها جسديًا، فضلًا عن الاعتناء به، وعادةً ما ينتهي الأمر بهؤلاء النساء إلى الطلاق، والعار والحزن”[24].
منذ بداية الحرب، اعتمدت أطراف النزاع في بسط سيطرتها على جماعات مسلحة من الرجال والشباب حديثي العهد بالمهام العسكرية والأمنية، وما لبثت أن وضعتهم في مناصب أمنية هامة، في مناطق لم تعد ساحة للقتال، ومن أمثلة هذه الجماعات: الحزام الأمني، والجماعات التابعة للحكومة، واللجان الشعبية التابعة للحوثيين، الذين حلوا محل قطاع الأمن المدني. وإلى جانب زيادة حالات الضعف هذه، فقد زاد خطر الاختطاف والعنف الجنسي بحق النساء والفتيات، وأدى انتشار الأمن إلى تقليص الحريات الأساسية للنساء والفتيات، بما في ذلك حرية الحركة، وإلى ثنيهن عن التحرك في الأماكن العامة.
وقد زادت تصرفات الأطراف المتحاربة من التمييز والعنف ضد النساء والفتيات، فازدادت مخاطر العنف الأسري، وثني النساء والفتيات عن الحركة خارج المنزل[25]، فخلال فترة النزاع تعرضت النساء للتهميش ولجرائم العنف بدرجات أكبر مما كان عليه الحال سابقًا، “فالإناث هن أول من يأكل أقل، كآلية للتكيف، على الرغم من أنهن يواصلن القيام بالأنشطة البدنية الشاقة، مثل العمل في الحقول”[26]، وهن الأكثر عرضة للعنف، بما في ذلك العنف الجنسي، التحرش والعنف الجسدي، بل يبدأ العنف القائم على النوع الاجتماعي من فترة الحمل، فإذا كان الجنين أنثى يبدو ضيفًا غير مرحب به، وقد يصل الأمر إلى حد معاقبة الأم على خلفية نوع الجنين الذي في بطنها، أو نوع المولود، وفي حين يُعد المولود الذكر نعمة، ويتم الاحتفال بمرور أسبوع على مولده بذبح رأس أو أكثر من الماشية، قلما يتم الاحتفال بميلاد الطفلة، حيث تعتبر أكثر من عبء على والدها وأسرتها، تقول شروق، وهي أم لفتاتين: “بعد الحرب صارت حياتي جحيمًا، صرت أتعرض للضرب وأتلقى الإهانات وأعاقب باستمرار. زوجي يضربني ويحرمني من الأكل والنوم، ويأمرني بالوقوف على قدمي حتى الفجر، كنت أتحمل كل ذلك بصمت. لم أقترف أي ذنب سوى أني أم لابنتين، وأهلي لا يملكون ما يسد الرمق، زوجي يعرف ذلك، ويستغل فقرهم ليمارس العنف ضدي، حتى وصل به الأمر إلى إبلاغهم أثناء قيامه بضربي، أتصل لأبي وأبلغه أنه ضربني وسحبني إلى الشارع، فلم يعد بإمكاني البقاء معه. قبل أن تبدأ الحرب، يتم ترحيل أبي وإخواني من السعودية، لم أعرفه على حقيقته، كنا نعيش أنا وهو وابنتنا البكر في بيت أهلي، وبعد ترحيل المغتربين، لم يعد بإمكاننا السكن معهم في الشقة ذات الثلاث غرف، فأخواي هما أيضًا متزوجان ويتشاركان الشقة نفسها”[27].
العنف ضد الناشطات
قبل أيلول/سبتمبر 2014، قادت النساء في اليمن المظاهرات في الشارع، بالإضافة إلى مطالب التغيير التدريجي، وفي 2018، بدأت النساء بتنظيم مظاهرات عامة ضد سلطات الأمر الواقع في صنعاء؛ بسبب مخاوف من تعرّض الرجال للقتل أو الاحتجاز بشكل أكبر، فاحتمالات تعرض النساء لقمع الأجهزة الأمنية كانت تبدو أقل، بفعل الأعراف الاجتماعية.
وبينما تدين العادات القبلية اليمنية، بشدة، اختطاف النساء، بدا الوضع الأمني المتدهور يغير هذا المعيار، حيث تعرضت عشرات النساء للاختفاء القسري والاحتجاز غير القانوني، وتعرضن للتعذيب وسوء المعاملة في سجون المتمردين الحوثيين[28]، فارتفاع حدة التوتر والصراع يبدو أنه كان يدفع أطراف النزاع إلى عدم التقيد بالأعراف والاتجاهات الاجتماعية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتظاهرات نساء الخصوم السياسيين، “فزوجات وأخوات المعتقلين هن ضحايا الاحتجاز المباشر وغير المباشر أو الاختفاء القسري الذي يتعرض له أعضاء أسرهن، إذ يزداد الوضع سوءًا بسبب عدم معرفة متى سيعود أحباؤهن أو إن كانوا سيعودون، كما يجدن أنفسهن مضطرات إلى أن يصبحن، بشكل رئيسي، مُعيلات وربات لأسرهن، وناشطات يتجندن من أجل حقوق أقربائهن الذكور المحتجزين. وكل دور تضطلع به المرأة يضاعف احتمالات تعرضها للعنف الجنسي والجسدي في منزلها وخارجه”[29]. وفي هذا السياق، تم احتجاز عشرات اليمنيات في سجون الحوثيين السرية دون تهم، حيث تعرضن في كثير من الأحيان للتعذيب وسوء المعاملة، وأسرهن ليست على علم بمكان وجودهن[30].
بحلول بداية عام 2019، توقفت التظاهرات النسائية، تحت سيطرة وإكراه أطراف النزاع، التي مارست العنف القائم على النوع الاجتماعي بحق الناشطات، حيث تم استهداف ما لا يقل عن 40 من الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان والصحفيين، على أساس النوع الاجتماعي، أو بسبب العمل في مجال حقوق المرأة، وشمل ذلك المضايقة الجنسية والتهديدات بالاغتصاب، واتهامات الدعارة، والاحتجاز، والاعتداء على مكان سكن المرأة، وطردها من العمل، والعنف الجنسي.
وقعت هذه الانتهاكات خلال الفترة 2015-2019. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الانتهاكات ارتكبت من قبل جميع أطراف النزاع، ويلاحظ عادة في حالات متعددة توحد أطراف النزاع المتباينة عندما يتعلق الأمر بقمع النساء الناشطات، وفي العديد من الحالات، قدمت النساء أدلة على حدوث انتهاكات في سلسلة من المظاهرات التي تقودها النساء ضد سلطات الأمر الواقع في صنعاء. حدث ذلك خلال ما لا يقل عن 5 مظاهرات عام 2017، واثنتين على الأقل في 2018، حيث تعرضت ما يزيد عن 300 امرأة وفتاة للعنف والترهيب، بما في ذلك كشف النقاب من قبل سلطات الأمر الواقع، وتفاقم العنف بسبب تهديدات الاغتصاب والاعتداء الجنسي واتهامات بالدعارة. تم تنظيم مظاهرتين في عدن من قبل أقارب المحتجزات للإفراج عن أفراد عائلاتهم، المظاهرة الأولى في 2017، والثانية عام 2019، قوبلت المظاهرتان بالعنف من قبل قوات الحزام الأمني.
وتشير التقارير إلى أن هناك تطورًا جديدًا في تصرفات سلطات الأمر الواقع، حيث احتجزت عددًا كبيرًا من النساء على أساس انتمائهن السياسي أو المعارضة، وتم استخدام التهم الجاهزة المتمثلة في الدعارة من أجل منع النساء الأخريات من المشاركة السياسية، حقق فريق الخبراء الدوليين مع حالة واحدة لامرأة ظلت مختفية لأكثر من 8 أشهر، بهذه الطريقة، كانت لهذه التهم التي أطلقت ضدها عواقب وخيمة على أسرتها، وحقق الفريق في قضية أخرى وصفت فيها امرأة تعرضها للاغتصاب في مناسبات متعددة على مدى أشهر، بعد محاضرات مؤيدة للحوثيين ومحاضرات عن الدين. ووصفت أن الشيء نفسه حدث مع ناشطات أخريات، وذكرت أن هذه الاعتداءات تحدث داخل شبكة أوسع من المنشآت السرية.
وإجمالًا، فقد كان لهذه الانتهاكات التي ارتكبتها أطراف النزاع ردًا على أعمال النساء المتعلقة بممارسة حرية التعبير وحرية التجمع، عواقب وخيمة على حقوق المرأة، وأدت إلى إحداث تأثير مخيف، وإلى وقف المظاهرات الناشئة التي تقودها النساء في صنعاء وعدن[31].
أخذ النساء كرهائن
في الفترة 2018-2019، قام أفراد في قوات الأمن ومقاتلي الحوثي في صنعاء والحديدة باختطاف واحتجاز 7 نساء وفتيات لفترات تصل إلى 8 أشهر؛ لإجبار الأقارب على قبول مطالبهم. في إحدى الحالات، فعلوا ذلك لإجبار منشق حوثي على الاستسلام. وفي حالات أخرى، احتجزوا النساء والفتيات بتهمة السفر دون وصي محرم، وصولًا إلى الحصول على فدية، وفي حالة أخرى، اختطف جيش الحكومة اليمنية امرأة وابنها الرضيع لإجبار إرهابي مشتبه به على تسليم نفسه للسلطات، ثم تم إجبار المرأة على خلع الشخص المشتبه به، مع ما ترتب على ذلك من آثار عميقة عليها، فاختطاف النساء والفتيات يعرضهن لخطر العنف الجنسي، ويجلب دلالات ووصمة عار معينة في اليمن، مما يعرضهن لمزيد من خطر العنف القائم على النوع الاجتماعي.
في الفترة 2016-2019، من بين 37 حالة من حالات العنف الجنسي المرتبط بالنزاع ضد أفراد المجتمعات الضعيفة والمهمشة على أيدي الجماعات المسلحة في جنوب اليمن، تم التحقق من اغتصاب 19 امرأة وفتاة واحدة و6 أولاد، ومحاولة اغتصاب فتاتين وامرأة، واعتداء جنسي على رجل وصبي، وخطف 6 نساء كرهائن، وتضمن ذلك الاغتصاب المهبلي والشرجي والشفوي، بما في ذلك الاغتصاب بالعضو الذكري، والاغتصاب بالأشياء، والاغتصاب الجماعي واستخدام الأسلحة. وقد وقع عدد من هذه الأحداث على مرأى من الآخرين، بمن في ذلك أفراد الأسرة، كانت 24 حالة منها للاجئين ومهاجرين من أصل إثيوبي وصومالي، و6 أفراد من المجتمعات المهمشة، و3 من أولئك الذين ينتمون لأصول إثنية أو طائفية أخرى[32].
ختان الإناث
يُمارس تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية (ختان الإناث) في بعض محافظات اليمن، حيث يمكن أن تصل الأرقام إلى 84% من النساء والفتيات، ففي 2013، أظهرت الأبحاث أن 19% من جميع النساء والفتيات في جميع أنحاء البلاد -اللائي تتراوح أعمارهن بين ١٥ و٤٩ سنة- قد تعرضن لشكل من أشكال تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، 99% من النساء ضحايا تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية يتعرضن للتشويه في السنة الأولى من الولادة، مع تشويه 93% خلال الشهر الأول[33].
“في السنوات الخمس الأخيرة، وبسبب الحرب، صار التركيز حول الاستجابة الإنسانية، ومواجهة العنف الذي يمكن أن تتعرض له النساء، فعلى سبيل المثال: توقفت برامج التوعية بشأن مضار ختان الإناث، حيث تحولت إلى برامج وخدمات إنقاذ الحياة، وخدمات طوارئ توليدية، ومنع العنف الذي يمكن أن تتعرض له المرأة، سواء كان العنف الجنسي أو العنف بسبب الانتقال من مكان لآخر[34]، وبسبب نظام الرعاية الصحية الهش قبل النزاع، وانهيار نظام الرعاية الصحية وسط القتال، ولاسيما الرعاية الطارئة، في العديد من المناطق الريفية في اليمن؛ يمكن أن يؤدي تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية إلى الوفاة أو إلى عواقب صحية طويلة الأجل، لا تحتفظ الحكومة اليمنية بأي بيانات رسمية عن الوفيات المرتبطة بتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، وبالتالي فإن عدد الفتيات اليمنيات اللائي فقدن أرواحهن بسبب هذه الممارسة لايزال غير معروف[35].
لم يصدر حتى الآن قانون يحظر تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية باستثناء التوصيات التي صدرت خلال مؤتمر الحوار الوطني، عام 2014، التي أشارت إلى أن أولئك الذين يمارسون تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية يجب أن يخضعوا للملاحقة الجنائية، واستجابة لهذه التوصيات وغيرها من توصيات الحوار الوطني، تم تقديم مشروع قانون حقوق الطفل الذي يجرم تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، وينص على عقوبات بالسجن وغرامات للمخالفين، إلا أن مشروع القانون كان معلقًا أمام مجلس الوزراء عندما تصاعد النزاع المسلح وتغيرت الحكومة.
زواج الأطفال
تشير الاتجاهات الحالية إلى أن زواج الأطفال آخذ في الارتفاع في اليمن، وطبقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن متوسط عمر الفتيات للزواج يبلغ حوالي 15 عامًا[36].
وعلى الرغم من صعوبة التأكد من تقديرات أكثر دقة في هذا السياق، إلا أن تفاقم حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والفقر جراء استمرار النزاع يُعد من بين الأسباب السائدة لزواج الأطفال. وتواجه الفتيات اللواتي يتزوجن في سن مبكرة مخاطر أكبر أثناء الحمل، بما في ذلك الصعوبات أثناء الولادة التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة.
لقد كان للنزاع المسلح في اليمن تأثير خطير في حصول الفتيات على التعليم، وفي هذا السياق صرحت “اليونيسف” أن مليوني طفل خارج المدرسة حاليًا، وتشير التقديرات إلى أن نصف مليون من هؤلاء الأطفال قد تسربوا من المدرسة منذ عام 2015، وهناك 3.7 مليونًا آخرين معرضين لخطر التسرب مع تصاعد الأزمة الإنسانية[37]، الفتيات معرضات بشكلٍ خاص للتسرب من المدرسة لأسباب مالية، يقول والد “شَهد” البالغة من العمر 12 عامًا، إنها ستتوقف عن الدراسة العام القادم، محمد فقط هو الذي سيواصل التعليم، هكذا يقول والدهما، على الرغم من أنه وزوجته لديهما شهادات جامعية[38]، فحالة اللااستقرار التي دفعته للانتقال من مسقط رأسه في ريف تعز إلى مدينة صعدة، للعمل في القطاع الخاص، تجعله في قلق دائم من احتمال فقدان وظيفته، وتقلل من يقينه بأهمية مواصلة فتياته الخمس لتعليمهن في منطقة تسود فيها النظرة الدونية للإناث، في حين يُنظر إلى تعليم الولد على أنه استثمار، إذ من المتوقع أن يكون أقدر على الكسب، لإعالة والده عندما يصل إلى سن الشيخوخة، فظروف الحرب عززت الاعتقاد أن تعليم الطفلة إهدار للموارد، لأنها -في أحسن الظروف- ستتزوج وتصبح ربة منزل، وتنقطع صلتها بأسرة الأب، فإن لم تتمكن الأسرة من الاستقرار في بيئة تميل للتحضر ولم تتمكن من تحمل تكاليف تعليم كل أطفالها، ستكون الأولوية في التعليم من نصيب الذكر.
وبالإضافة إلى هذه الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية، هناك أسباب تتعلق بالسلامة، فالاستخدام العسكري للمدارس من قبل أطراف النزاع أثر بشكل غير متناسب على وصول الفتيات إلى التعليم. أفاد التحالف العالمي لحماية التعليم من الهجمات في 2019، أن المليشيات والعصابات المحلية كانت معروفة بقطع وصول الفتيات إلى المدارس على وجه الخصوص، بل إنها تهدد أعضاء إدارة المدرسة بالقصف إذا سُمح للفتيات بمواصلة الحضور[39]، مما يزيد من معدلات التسرب واحتمالية الزواج المبكر وسوء المعاملة والاستغلال، فنتيجة لعمليات التجنيد التي تمارسها الجماعات المسلحة على الصعيد الوطني، يتشرد الأطفال، ولاسيما الفتيات، بأعداد كبيرة، ويتعرضون للعنف الجنسي، ورغم أن النساء هن الفئة الأضعف والأكثر عرضة للعنف، فإن الفئة الأكثر ضعفًا والأكثر تعنيفًا، الأطفال الإناث، فهن من يواجهن أسوأ تغذية وأقل فرص تعليم.
صور أخرى من العنف القائم على النوع الاجتماعي الناجم عن النزاع
قبل النزاع، كانت النساء والفتيات يحصلن على بعض الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعلى دعم العدالة الجنائية لهن، بفضل النشاط المستمر من جانب الشبكات المجتمعية المحلية التي تقودها نساء، ومنذ عام 2017، أخذت سلطات الأمر الواقع في صنعاء تعترض بانتظام أنشطة الحماية أو زيادة الوعي بالعنف القائم على النوع، الذي تقوم به هذه المنظمات المحلية أو الدولية، حيث ترفض مؤسسات سلطة الأمر الواقع السماح ببرامج الحماية والتوعية على العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتعمد إلى مضايقة وتهديد الموظفين، واتهامهم بالدعارة، وتقوم بالإغارة على أماكن عملهم، واحتجاز موظفيهم، وقد أدى ذلك إلى تفكيك شبكات الحماية والوقاية، وتعريض النساء والفتيات لمزيد من الخطر والضرر، مع إثنائهن عن متابعة المساءلة، ومنع التدابير طويلة الأجل لمكافحة العنف القائم على النوع، كما قام أفراد الجماعات المسلحة في المحافظات الجنوبية الخاضعة لسيطرة الحكومة والإمارات العربية المتحدة، بمضايقة العاملين في مجال الحماية[40]، فتصاعد الصراع والأزمات الإنسانية التي أعقبته أدى إلى إضعاف وضع النساء والفتيات، وتآكل آليات حمايتهن تقريبًا، مما زاد من خطر تعرضهن لسوء المعاملة والعنف.
بحسب نتائج دراسة حديثة، أثرت سنوات الحرب والفقر وما رافقها من عنف قائم على النوع الاجتماعي، بشكل خطير، على الصحة العقلية للعديد من النساء والفتيات، إذ يقدر أن واحدًا من كل 5 أشخاص في اليمن يعاني من اضطرابات نفسية، فالكثير من الناس فقدوا وظائفهم وازدادت الأعباء التي كانوا يتعرضون لها.. وتفككت العديد من العائلات، وانتشر العنف[41] القائم على النوع داخل الأسرة، فتدهور الحالة المعيشية والضغوط النفسية يولد العصبية لدى رب الأسرة، الأمر الذي يجعل الإناث يبدين في نظره عالة تثقل كاهله، ويصعب الاستفادة منها في ظل الحرب، فيزداد الميل لممارسة العنف ضدهن، ويصبحن أكثر عرضة للضرب والحرمان، وأكثر عرضة للصدمات والضغوط النفسية.
انتكاسة الاستجابة الإنسانية لمواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي
يعمل صندوق الأمم المتحدة للسكان على تمكين النساء والفتيات من خلال مساحات آمنة وعيادات متنقلة في المناطق المتضررة، للوصول إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، تتلقى النساء المساعدة المنقذة للحياة، حيث يدعم الصندوق 46 مساحة آمنة للنساء والفتيات في اليمن، اثنتان منها في مأرب، وواحدة في الجوف، ففي 2019، تلقى ما يقدر بـ30.000 من الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، الرعاية[42]، لكن هذه الخدمات تتعرض للتهديد في الوقت الذي تشتد الحاجة إليها، فقد “بات الصندوق الأممي يواجه صعوبات في التصدي للعنف ضد النساء والفتيات في مناطق الصراع التي يصعب الوصول إليها، في ظل ارتفاع عدد المتضررات من العنف الجنسي”، فـ”2.6 مليون امرأة صرن عرضة لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، و52 ألف امرأة معرضات لخطر العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب”[43]، فعلى الرغم من تصاعد أعداد المستفيدين من برامج الحماية الإنسانية والدعم النفسي، فأن الحاجة تزداد بوتيرة أعلى.
وفي الواقع، بدأ تمويل هذه الخدمات الإنسانية الأساسية بالنفاد، حيث صارت 50% من برامج الصندوق التي تتصدى للعنف القائم على النوع الاجتماعي، مهددة بالتعليق، كما صارت الخدمات المخصصة للناجين في 29 مكانًا آمنًا في 21 محافظة، و4 مراكز نفسية متخصصة في محافظات عدن وصنعاء وحضرموت، مهددة بالإغلاق، وسيترك هذا ما يقدر بنحو 350.000 شخص بدون خدمات الاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، وسيفقد 40.000 شخص ضعيف للغاية إمكانية الحصول على الرعاية النفسية[44].
لقد تسبب النزاع المسلح في تزايد معدلات العنف القائم على النوع الاجتماعي، فكان له تأثير بالغ على تدني معدلات التحاق الفتيات بالمدارس، وتدني سن الزواج، كما تسبب في ظهور أشكال جديدة من العنف، كاحتجاز الناشطات، وممارسة العنف الجنسي ضد بعض النساء الرهائن والمعتقلات، بما لذلك من تأثير نفسي واجتماعي وصحي.
وتتوزع مسؤولية تفاقم هذا العنف بين أطراف النزاع؛ الحكومة اليمنية وأعضاء التحالف، وسلطات الأمر الواقع، إلى جانب مسؤولية المجتمع والأسرة، فكلها شاركت في تفاقمه، وفشلت في احترام وحماية حقوق النساء والفتيات، فالسلطات الرسمية لم تتخذ ما يلزم لمقاضاة مرتكبي العنف القائم على النوع الاجتماعي، وحماية المدافعين عن حقوق المرأة، ومارست الاعتقال التعسفي واحتجاز الرهائن، والتعذيب وسوء المعاملة ضد النساء، وانتهاك الحريات الأساسية، ولاسيما الحق في حرية التعبير والتجمع، ما يشكل انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي، إضافة إلى المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب المتمثلة في الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي والتعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الاعتداء على الكرامة الشخصية واحتجاز الرهائن، وفي مقابل ذلك كان تشويه الأعضاء التناسلية والعنف المنزلي ضد النساء والفتيات وزواج القاصرات والحرمان من الحقوق الأساسية، في تصاعد جراء صعوبة التكيف مع الأزمة الإنسانية المتفاقمة.
التطلع قدمًا
يهدّد تفاقم العنف ضد النساء والفتيات الذي جلبته الحرب، بنسف المكتسبات الطفيفة التي تحققت على صعيد حقوق المرأة وتعليم الفتاة، وحماية النساء والفتيات، كما يهدد بناء السلام والاستقرار في اليمن، وسيستلزم علاجه وضع استراتيجيات لتحسين أوضاع المرأة في مرحلة ما بعد الحرب، إلى جانب وضع خطط طوارئ عاجلة لحماية النساء والفتيات في مرحلة النزاع.
ما يلي هي مبادئ وُضعت بالاسترشاد بما سبق، لأخذها بعين الاعتبار لمواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي في اليمن أثناء النزاع، وتعزيز حقوق المرأة في مرحلة ما بعد الحرب.
تدابير يمكن للمنظمات الإنسانية والأجهزة الرسمية أخذها في الاعتبار أثناء فترة النزاع
- 1) التنسيق من قبل المنظمات مع الحكومة اليمنية وسلطات الأمر الواقع، وحثها على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني أثناء العمليات الحربية، والتعاون مع المنظمات من أجل تهيئة المجتمعات المحلية لتلقي برامج الحماية، وإزالة العقبات التي تحد من تقديمها لمحتاجيها من النساء والفتيات، وتدريب الموظفين المكلفين بتنفيذ القوا